بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
في كتابه "هل الرأسمالية أخلاقية؟" يشير الفيلسوف الفرنسي أندري كونط سبونفيل إلى أن عودة السؤال الأخلاقي اليوم إلى واجهة الخطاب المهيمن وواجهة الاهتمامات، ظاهرة اجتماعية تستحق التوقف عندها والتدقيق فيها.
نقرأ في هذا البحث الذي نسعد بتقديمه في مركز ابن غازي للباحث فؤاد هراجة محاولة تحليلية وفلسفية تستدعي التدبر والتأمل، محاولة تستقرئ جزءا من عمل الفيلسوف الأمريكي توماس وول في كتابه عن "التفكير النقدي في القضايا الأخلاقية"، وذلك من خلال فتح ورشة للنقاش والاحتجاج عن بعض المواقف الأخلاقية بصدد قضايا معاصرة يتم فيها استدعاء ترسانة التاريخ الأخلاقي واستحضار جهود أخلاقيين كبار أمثال أفلاطون كانط وهيجل وسبينوزا وغيرهم.
اهتم الباحث فؤاد هراجة بتتبع مسار دفاع توماس وول بقدرة بحثية وبيانية عالية عن حلقة الربط بين نظرية القيم ونظرية الإلزام، والتي تتجلى في ضرورة امتلاك القدرة على تمييز الخير والشر، أو تمييز الأشياء الأكثر خيرية من الأخرى، لأنها خطوة ممهدة لتحديد الصواب والخطأ.
يعود بنا الباحث فؤاد هراجة بأسلوب يتميز بكثير من الفضول المعرفي والدقة والعمق لمساءلة "الأخلاقي"، واختبار معنى حاجتنا اليوم لعودة "سؤال الأخلاق"، في محاولة لا تخلو من مغامرة ورغبة ملحة في اكتشاف مساحة فلسفية جديدة لمطارحة الموضوع من زاوية مختلفة عن كثير من المعهود في التقليد الفلسفي الغربي، وبخاصة الكانطي في ميتافيزيقا الأخلاق ونقد العقل العملي ، لكنه في ذات الوقت متصل بتخوم موضوعات كلاسيكية يمكن للقارئ أن لا يجد صعوبة في ملاحقتها وملاحظتها، وذلك بفضل الجهد النوعي الذي بذله الباحث فؤاد هراجة في بسط الأفكار الأخلاقية وعقد مقارنات بين أكثر من زمن فلسفي ومجال تداولي بلغة الفيلسوف طه عبد الرحمن.
في هذا الكتاب نطالع مع الباحث في الفلسفة الأخلاقية فؤاد هراجة، رصده للطرق النقدية التي سلكها استاذ الفلسفة الأمريكي توماس وول في معالجته للتراث الفلسفي الأخلاقي الغربي خصوصا، وتأسيسه لأخلاق الفضيلة ذات الطبيعة "النسبية" والتي لا تمت إلى أخلاق المبادئ والإلزامات بصلة، وذلك رغم ما يبدو في الظاهر من تشابه بينهما، لأن توماس وول يراهن على جوهرية المسؤولية والاختيار التي يجب أن تقود لأخلاق العدل والإحسان والاستقلالية.
يبين لنا الباحث فؤاد هراجة في عمله التحليلي كيف تتأسس الأخلاقيات الجديدة عند توماس وول على الإيمان بالآخر، وعلى الإيمان بوجوده واختلافه الضروري، وتعدد اختياراته التي يجب وضعها في الحسبان عند كل موقف، ولهذا فإن القضايا الأخلاقية في نظر وول لا تعد قضايا لأنه لا حلول لها، بل هي قضايا لأن حلولها متعددة، فمن المهم أن يعرف المرء "الرأي الآخر" فضلا عن حله المفضل للقضية. إن قدرة الحل الذي نفضله، إنما تقاس بمدى قدرته على تحمل اعتراضات "الطرف الآخر"، كما أن الدراية بآراء الخصوم تجعله أكثر تسامحا وتفتحا، وهو ما يحتاجه عالمنا المعاصر اليوم من ترسيخ لشرعية الاختلاف والحق في الاختلاف على كافة الأصعدة.
يبدأ التحليل الأخلاقي المؤسس على "النسبية"عند توماس وول، سواء اتفقنا معه أو رفضناه، بما هو في اعتقادنا مزيج من فلسفة التعدد والاختلاف وثقافة الانفتاح والتسامح، من صياغة القضية الأخلاقية وتحديدها ثم تحديد الحلول الممكنة لها وينتهي لتحقيق الغاية التسامحية بالتذكير بأن هناك على الأقل منظورا مختلفا ومغايرا في مقاربة الموضوع، وذلك لضمان العيش المشترك بعيدا عن الاحتكاك الذي تهدر فيه الطاقات وتتهدم التضامنات وينشط خيار صدام الثقافات والحضارات.
إن فلسفة توماس وول الأخلاقية لا تحل مشكلة الإنسان المعاصر المركبة والمعقدة في علاقته بنفسه وبالآخرين، بقدر ما تفتح النقاش من جديد حول أهمية العودة لاسترجاع السؤال الأخلاقي في علاقته بالحدود الثقافية والدين والقانون والسيولة التي تعرفها المواقف والمشاعر.
في الختام نسأل العلي القدير أن يجعل هذا العمل في ميزان حسنات الباحث المتميز فؤاد هراجة وأن يثيبه على جهوده وأن ينفع به، وأن يكون هذا البحث مقدمة القطر لأعمال كبيرة في قابل الأيام.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين