بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على النبي الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد..
فإن العلم كما يقوم بموضوعه ومنهجه، يقوم في ذات الوقت بمفاهيمه ومصطلحاته، التي تنزل منزلة الأدوات في بناء نسقه وتطويره، وكلما أُحْكِمت هذه الأدوات والمفاهيم في تأسيسها بأن خرجت معبرة عن روح وعقل من صنعها لا عن هواه ومشتهاه، كان لهذا البناء فاعلية ونماء وقدرة على التطور والمواكبة لمستجدات العصر وأسئلته.
ومن ذلك علم الفقه المالي أو ما يصطلح عليه بالاقتصاد الإسلامي، الذي جاء في المبتدأ لترشيد العلاقة بين الإنسان والمال من جميع الوجوه، وفي الخبر من أجل أن يكون الشرع حائطا بكافة التصرفات التي يكون موضوعها الثروة ونماؤها ونقلها وتوزيعها والمشاركة فيها.
ولاشك أن خطورة هذا الموضوع تكمن في أن مادته ليست في الواقع هي المال بقدر ما هي "النفس الإنسانية" في تعرضها لامتحان المواجهة مع غواية المال التي تجر إلى كافة أشكال الاستئثار والكنز والحيف، "النفس الإنسانية" في توقانها للتكاثر والتكثير والزيادة والتوفير، وما لم يقم العقل الفقهي _من منطلق الحقوق والأخلاق_ بضبط هذه العلاقة النوعية بين "النفس" و"المال" وهما من الكليات الكبرى التي جاءت الرسالة لحفظها لأن ببقائها تستمر الشريعة وتستمر الحياة، فهما مادتها وقوامها، فستنهد الشريعة بالكامل وينهار معها أساس الحضارة، لأن "المال" حينها لن يكون وسيلة لتيسير البقاء وزكاته وإنما سيستحيل إلى غاية تأسر الوجود الإنسان وتستعبده.
في هذا العمل الذي نسعد بتقديمه في مركز ابن غازي يقدم لنا الدكتور عبد الكريم عبادي جهدا علميا نفيسا في تقصي مفاهيم الاقتصاد الإسلامي في صورته المعاصرة متتبعا أصول صور المعاملات المستحدثة وكاشفا عن ذكاء العقل الفقهي في تكييف النوازل وإلحاق الجزئيات بالكليات وفق قواعد فقهية وأصولية دقيقة تكشف عن عبقرية وجهد استثنائي بذله المسلمون عبر تاريخ ممارستهم الفقهية في أن يمنعوا "الحرام" و"الشبهات" من أن تتسرب إلى دائرة المال، وحتى يعيش الإنسان المؤمن هذه العلاقة مع المال بعلم وإيمان.
لقد توفق الباحث الدكتور عبد الكريم عبادي في الاستقصاء والجمع وفي الترتيب والتبويب وفي التأصيل واستحضار الخلاف الفقهي الوارد في كل مدخل دون أن يقع تحت ضغط أكوام التفصيلات والاستطرادات التي تشتت الانتباه وتوقعه في الفوضى والاضطراب، فجاء عمله منسقا متصلا أوله بآخره جامعا لفضيلة الإلمام بالتراث الفقهي وأدوات التحليل الاقتصادي المعاصر، وهي واحدة من مزايا هذا العمل العلمي.
من نتائج هذا العمل تنبيهه إلى أن الكثير من المعاملات المالية التي تقدمها البنوك الإسلامية تحتاج إلى دراسات متخصصة وتمحيص خبير حتى تكون أقرب لروح الشريعة التي تروم بناء اقتصاد استثماري بدل الاعتماد على الاستهلاك فقط.
كما كان من خلاصات الباحث الدكتور عبد الكريم عبادي دعوته إلى ضرورة إعادة النظر والتقييم في الإدارة الاقتصادية الإسلامية لبعض الأدوات المالية حتى تتلاءم أكثر مع أحكام الشريعة الإسلامية لأن بعض المعاملات المالية إن لم تتم مراقبتها الشرعية من طرف هيئات المراقبة الشرعية يمكن أن تكون صورية فتكون حيلة إلى المعاملات الربوية المقنعة.
في الختام نسأل الله تعالى أن يجازي خيرا الباحث الكريم وأن يجعل جهده في ميزان حسناته وأن ينفع بعمله هذا عموم الباحثين والمهتمين بميدان الاقتصاد الإسلامي، إنه سبحانه وتعالى سميع مجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.