من البلاغة إلى التداولية: دراسة تحليلية في البنية والتصور(الدكتور رضوان الرقبي)

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا ومولانا محمد وآله  وصحبه، أما بعد..

فإن امبراطورية البلاغة كما يحلو لبيرلمان أن يسميها ظلت عبر التاريخ تمارس دورها في إضاءة كيفية اشتغال فنون الكلام الإنساني في صورتيه الباذخة والمنطقية المقْنِعة، وكانت أسئلتها مختلفة تنتمي لجنس المعرفة الكلاسيكية التي رافقت ظهورها، ومع تطور أنساق البحث اللساني وظهور التداوليات التي حملت معها أسئلة جديدة تتعلق باكتشاف وظائف جديدة للغة ومساحات نفسية واجتماعية ومعرفية تتداخل لترسم المعنى، سوف يعرف حقل البحث ما يشبه "الزلزال" أو "الثورة".

إن الثورة اللسانية بدأت  بترسيم حدود "العلم" وبإعادة ترسيمها المستمر، انطلاقا من فرضية أن" الحيز الخارجي لعلم ما، أكثر وأقل امتلاء مما نظن" كما يقول ميشيل فوكو، بمعنى أن ما كان يقذف به إلى خارج العلم في زمن معين قد يتم استدعاؤه ليكون من صلب العلم في زمن آخر، وهو ما حصل مع التداوليات التي أعادت الحياة لما هو خارج لساني حتى يكون له دور في فهم ما هو لساني..

في هذا الكتاب الذي يقدمه مركز ابن غازي للأبحاث والدراسات الاستراتيجية للباحث رضوان الرقبي المتخصص في تحليل الخطاب واللسانيات التداولية، يعيد الباحث بخبرة متميزة تجمع بين القديم والحديث تعريف المصطلحات المفتاحية(التواصل والاستعارة والبيان والقصد وغيرها) و  رسم الجسور التي عبرت عليها المفاهيم البلاغية الكلاسيكية لترفرف في فضاء التداولية بحرية وجرأة وانطلاق متدثرة بألوان عوالم جديدة تزيد من فهمنا للوقائع اللغوية أو لنقل بشكل أدق توسع من استيعابنا للحادثة البلاغية من خلال ما فتحته من نوافذ للتهوية والإضاءة.

يريد هذا الكتاب للباحث الدكتور رضوان الرقبي أن يفتح أمام الباحثين في اللسانيات مجالا ما يزال غير مألوف كثيرا بالقدر الكافي هو مجال اللقاء أو لنقل الانتقال "الرشيق" من البلاغة في اتجاه التداوليات والخبرات المعرفية والتفاعلية كما يسميه ميشال فوتيون وآن كاثرين سيمون، الانتقال من مجال تصوري للكلام إلى مجال آخر بأدواته ومفاهيمه وفلسفته، يحاول أن يجد الروابط والمتشاكلات مع حرصه على اختبار القدرات التفسيرية والحدود التصورية.

في هذا الكتاب دعوة غير رسمية لكنها واضحة للباحثين المتحمسين للجديد اللساني للعودة إلى عبد القاهر الجرجاني والقاضي عبد الجبار وسيف الدين الآمدي وإلى القزويني والسكاكي والرازي وكل أساطين البحث البلاغي في القديم، إذ لاشك أن انشغالات البلاغيين العرب القدامى يمكن أن تشكل منصات لانطلاق نظريات دلالية تداولية متقدمة إذا اجتمعت إليها أدوات تحليل معاصرة تعيد لها راهنيتها وتصلها بأسئلة العصر.

في الختام، نتوجه بالشكر الجزيل للباحث على سعيه لتقريب الحقلين المعرفيين من خلال ما يقدمه من أعمال تتميز بالعمق والإحاطة اللازمين لكل عمل محترم، كما نرجو الله تعالى ان يجزيه خير الجزاء وينفع بجهوده.. آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..

تم عمل هذا الموقع بواسطة