بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين أما بعد:
فإن القرآن الكريم باعتباره نصا سماويا يتعالى في دلالته ويتسع إلى غايات بعيدة يحيط فيها بالزمان والمكان والإنسان، غير أنه في انتشار دلالته واتساعها يظل مشدودا لأصل أصيل لا يمنعه من الحركية والتفاعل والتوليد المستمر للدلالة، إنه المعهود من كلام مخاطبيه زمن نزول الوحي، هذا الأصل بقدر ما يمنح من رسوخ وثبات يعطي إمكانات للعقل الفقهي بسبب خصائص اللسان "المنضبطة" و"المرنة" في ذات الوقت لكي يتوسع ويتمدد ويبدع بحثا عن مخارج لسانية وتأويلية لفائدة الانسجام بين الواقع والنص عبر التاريخ.
لقد ظل القرآن الكريم دائما مصدر إلهام للمشتغلين به، يفتح لهم أبوابا من الفهم والفقه تكاد لا تنحصر ولا تنحد متى خلصت النيات وتسامت الإرادات وشحذت القرائح ودقت النظرات والاجتهادات..يقول تعالى في سورة الشعراء:"وإنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين".قال ابن فارس عقب هذه الاية:"فلما خص جل ثناؤه اللسان العربي بالبيان، علم أن سائر اللغات قاصرة عنه، وواقعة دونه" انتهى كلامه رحمه الله..
وقد كان وما يزال المدخل اللغوي أبرز المداخل وأولاها بالعناية للمشتغل بالدلالة القرآنية الغنية، ولا أدل على ذلك مما نص عليه الشاطبي رحمه الله في موافقاته من ربطه بين الفقه في القرآن وتحصيل علوم العربية، حتى قال عن الحاجة لعلوم العربية:" بيان تعين هذا العلم ما تقدم في كتاب المقاصد من أن الشريعة عربية، وإذا كانت عربية؛ فلا يفهمها حق الفهم إلا من فهم اللغة العربية حق الفهم؛ لأنهما سيان في النمط ما عدا وجوه الإعجاز، فإذا فرضنا مبتدئًا في فهم العربية فهو مبتدئ في فهم الشريعة، أو متوسطا؛ فهو متوسط في فهم الشريعة والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية، فإن انتهى إلى درجة الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة؛ فكان فهمه فيها حجة كما كان فهم الصحابة وغيرهم من الفصحاء الذين فهموا القرآن حجة، فمن لم يبلغ شأوهم؛ فقد نقصه من فهم الشريعة بمقدار التقصير عنهم، وكل من قصر فهمه لم يعد حجة، ولا كان قوله فيها مقبولًا." انتهى كلامه رحمه الله.
إن العقل الفقهي وهو ينظر في الدلالات القرآنية يستخرج مكنوناتها وأحكامها، لا يفضي إلى ساحل الحكم إلا بالمرور الضروري ببحار اللغة وتشعباتها، وإن الدلالة النحوية أحد أكثر أمواج هذا البحر وعورة ومشقة، والحق أن العقل الفقهي استطاع تاريخيا أن يركب بذكاء منقطع النظير القواعد الفقهية ويستنبط من خلالها الحلول الجزئية، ويتجاوب مع العصر وأسئلته الملحة من خلال القواعد التي تأسست في جملتها على فقه العربية بالدرجة الأولى.
إن القواعد الأصولية التي ينظر من خلالها العقل الفقهي في "النص" هي بالدرجة الأولى قواعد لغوية ذات نزعة عقلية، قواعد لغوية أفضى إليها استقراء كلام العرب وتتبع مجاري كلامهم، وقد مرت هذه القواعد بالكثير من التحليل المنطقي والتمحيص الفلسفي الجدلي كما نطالعها في كتب التفسير والجدل والأصول والفقه، فهي في النهاية خلاصة تجارب منهجية استفيد منها بشكل كبير في علاج المستجدات والنوازل والتفتيش في عموم المستجدات الفقهية، وشكلت للمسلمين ثروة فقهية كبرى، وليس ثمة علم من علوم الشريعة إلا وحاجته لعلوم اللسان ملحة وضرورية، حتى قال جار الله الزمخشري:"وذلك أنهم لا يجدون علما من العلوم الإسلامية فقهها وكلامها، وعلمي تفسيرها وأخبارها، إلا وافتقاره إلى العربية بين لا يدفع، ومكشوف لا يتقنع" انتهى كلامه رحمه الله.
ونحن اليوم في مركز ابن غازي للأبحاث والدراسات الاستراتيجية إذ نقدم هذا العمل العلمي الموسوم بـ"القرآن والعقل الفقهي: دراسة في اشتغال الدلالة النحوية" للشاب الدكتور عز الدين السليماني، وهو أحد الباحثين المميزين بالمركز، فإننا بذلك نسعى أولا للتعريف بجهد مشكور للباحث في تقصي أثر الدلالة النحوية في استخراج الأحكام الفقهية تنبيها على ما للفقه بموضوع العربية من شديد الصلات، وتنويها بجهد مميز من باحث جاد وواعد استطاع بذكائه أن يشتغل على موضوع تظل له راهنيته وأهميته في مجال الفقه والتجديد والاجتهاد.
وإن هذا البحث ليستمد شرفه من شرف ما اشتغل بموضوعه، وهو القرآن الكريم، ولعل أبرز ما يميز هذا العمل العلمي هو جمعه مادة وفيرة في موضوعه متناثرة في مصادرها، لمّ شملها وقيد شاردها ورد قاصيها إلى دانيها، ثم رتبها في عناوين كبرى وصغرى، ثم حلل وناقش، ورجح بين الأقوال مبينا عن قدرة علمية متميزة.
فالله نسأل أن ينفع الله به، وأن يثيب صاحبه عليه أحسن الثواب، وأن يبارك في جهود كل من ساهم في إخراجه وطبعه ونشره.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين