بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على نبي الرحمة المهداة وعلى أصحابه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين وبعد..
فإن العقل الفقهي منذ زمن تشكله الأول على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قد بنى قواعده على تحري المصلحة وطلبها وتقديمها والتفتيش حال التراجيح في تقديم ما يعم منها على ما يخص، وتقديم اليقيني منها على المضنون، وفي الظنيات يقدم الأقوى فالأقوى كما يقول الجويني ، وغير ذلك من الترتيبات الدقيقة التي تكشف عن عبقرية هذا العقل وحكمته.
وكان من استئناف الوعي بهذه الحقيقة الساطعة أن قرر المحققون من علماء الأصول والمقاصد على لسان ابن القيم رحمه الله أن" الشريعة مبناها وأساسها على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل"، الشريعة على هذا حكمة وعدل ومصلحة، وهي الشريعة الحقة، فهي تتحدد بقيمها، وما سواها مما خالف هذه القيم من عبث وظلم ومفسدة على هذا الترتيب فخارج بالشريعة عن هذه الحقيقة.
هذه المصالح الكبرى والتي لا تكون الشريعة إلا بها وبتقديمها على غيرها من الرغبات والأهواء "ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون" (الجاثية:18)، لا يمكن أن تحصل إلا باعتبار أنها ضروريات، وهذه الضروريات جرى التعبير عنها بلفظ "الحفظ" التي تعني في جملة ما تعنيه صيانة "المعنى" و"الإنسان" من التصادم مع "روح الشريعة"، فقد جرت عادة الله تعالى في الشرائع أن الأحكام تتبع المصالح على اختلاف رتبها كما ذكر ذلك صاحب الفروق.
في هذا الكتاب الذي نقدمه باسم مركز ابن غازي للأبحاث والدراسات الاستراتيجية للباحث البشير قصري، يأخذنا هذا العمل إلى ميادين السياسة والاقتصاد ليكشف لنا جوانب من هذه العبقرية في تقرير القواعد على المستجدات والنوازل، وكيف يشتغل هذا العقل ليلائم مقررات الشريعة مع متطلبات العصر، وكيف يتسع العقل الفقهي، متجاوزا تحفظات الظاهرية، ليحيط بأفراد الحوادث المتجددة حتى تدخل تحت نظام الشريعة الحكيم.
يعرض لنا هذا الكتاب التحدي الذي يواجهه العقل الفقهي للإجابة عن إحراجات المستجدات في الميدانين السياسي والاقتصادي، واللذان يتطلبان اليوم إعادة بناء العقل المسلم ليتمكن من معالجة قضايا الإنسانية -بالحكمة-في الزمان والمكان من خلال الرؤية الكلية وبمراعاة السنن الاجتماعية بما يجعل من الفكر السياسي والاقتصادي الاسلامي مدخلا مناسبا لتجديد الخطاب الديني الذي تميزه مرجعية "الفطرة"، وهو ما أكده الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله حين لخص بأن "ابتناء المقاصد على أصل الشريعة الإسلامية الأعظم وهو الفطرة".
لقد تمكن الباحث البشير قصري ووُفق في عمله هذا وهو يفتح لنا بابا مشرعا على أطوار من معالجة العقل الفقهي، الذي ارتقت فيه المعالجة كما يقول الكيلاني "من المعالجة الفردية لمشكلة فرد إلى معالجة قضايا الأمة"، وهو مستوى من الاجتهاد المقاصدي الذي تتقدم فيه أحكام المقاصد على أحكام الوسائل.
من حسنات هذا العمل أنه يكشف لنا بأن نظر العقل الفقهي الحقيقي مصلحي يتميز بطابع التوفيق والتدقيق الذي يهدف إلى أن يقدم حلولا لمعضلات الإنسان المعاصر في عالم اليوم، يفتش عن "مصالحه" الحقيقية" وليست "المزيفة" أو "الوهمية" بميزان القرآن، كما يتوخى أن يعمق الصلة بين مفهوم "المصلحة" بمعناها الشرعي والقيم "الأخلاقية" حتى تنضبط لديه "المصلحة" بضابط "الاستقامة" و"الفائدة" و"الشمول"، وحتى يتخلص الإنسان في السياسة كما في الاقتصاد من "اتباع الهوى" وهو مقصد أخلاقي بامتياز، فمقصود الشريعة في النهاية كما يقول الشاطبي هو "إبعاد المكلف عن اتباع هواه".
في الختام نسأل الله تبارك وتعالى أن يجازي خيرا الباحث البشير قصري، وأن يثيبه على عمله وجهده، وأن يجعله مقدمة لما بعده من أعمال تنفع الأمة جمعاء وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.