الشفافية والكثافة: دراسة فقهية وأصولية لدلالة الظاهر والمؤول في القرآن الكريم(عبد الإلاه بالقاري )

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا ومولانا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد..

فإن دلالة الألفاظ متوقفة في انعقادها على شروط وقيود، ومتى حصلت أو توفرت أمكن صياغة واستنباط تأويل مناسب للكلام منطوقا أو مكتوبا في الجملة، ولا يجوز بحال المضي لفهم معين دون غيره بلا هذه الشروط التي تعد مقدمات أولية للعروج للمعنى المقصود.

وفي دراسة المشتغلين بالدرس الفقهي والأصولي من خلال القرآن الكريم تجد صدى كبيرا لهذه المعرفة الشرطية الممهدة للفهم عن الله تعالى، والتي تدور في ثلثيها على المعرفة بعلوم اللسان إفرادا وتركيبا كما ينص أبو إسحاق الشاطبي، فمن كان مبتدئا في علم العربية كان مبتدئا في فهم الشريعة، ومن كان متوسطا في علم العربية كان متوسطا في فهم الشريعة، وهكذا..كما قال الشاطبي.

ولما كان تأويل أحد أوجه الدلالة هو في واقع الحال سعي في طريق الاحتمال لا غير صعودا ونزولا أو بعبارتنا درجات على سلم الكثافة والشفافية، فتارة قريبة وتارة أخرى بعيدة، فتكون الدلالة راجحة فقط، أي ترددا بين أدنى درجات الرجحان وأعلاها، وهي التي ليس بينها وبين القطع إلا قليل (درجة التقريب) كما يسميها الريسوني في "نظرية التقريب والتغليب".

في هذا الكتاب الذي نقدمه في مركز ابن غازي للباحث الدكتور عبد الإله بلقاري، نجد عملا مميزا يقوم على بسط نظري لجهود الفقهاء والأصوليين في تناول ثنائية الظاهر والمؤول، وهي من القضايا العلمية التي كلفت العلماء جهودا مضنية كبيرة في تأصيلها وتقعيدها وضبط مسالكها، خصوصا أنها مرتبطة بالأصول المؤسسة للثقافة والحضارة الإسلاميتين.

كما نجد تمثيلات تشهد بتمرس الباحث عبد الإله بلقاري - فقهيا وأصوليا - في استدعاء التطبيقات الفقهية للظاهر والمؤول في القرآن الكريم، تشهد على مدى تجذر الأخذ بهذين المسلكين في النظر الفقهي، ومن تتبع هذين المسلكين في تفاسير الأحكام وكتب الفقه، تأكد له تعويل الفقهاء البالغ عليهما في تفسير واستثمار النص الشرعي واستخراج المعاني منه.

إن ثنائية الشفافية والكثافة في دلالة الظاهر والمؤول، لا تتصل فقط ببنية اللفظ الداخلية كما يبين أحمد العلوي في كتابه عن نظرية المعنى، بل له تعلق بالقرائن التداولية "الحالية والمقالية" كما فصل ذلك إمام الحرمين في البرهان، مما يستدعي استحضار استقراء هذه القرائن وتجميعها لأن انعقاد المعنى لا يكون إلا بها للترجيح.

والنزول من الكثافة إلى الشفافية هو الذي يوصل إلى القطع، ويقوي الظن بعبارة الأصوليين، حتى يحصل الاستقرار السيكولوجي في التأويل كما يسميه شلايرماخر، أو بعبارة الأصوليين الثقة والطمأنينة التامة بمدلول النص، فترتقي الدلالة الظاهرة لدرجة الإفادة، فتأتي مفيدة لمعناها ويمكن الاحتجاج بها باتفاق.

في الختام نسأل العلي القدير أن ينفع بهذا الكتاب عموم المهتمين بالدرس القرآني والفقهي والأصولي، ويجعله في ميزان حسنات الباحث، ويجعله حلقة تليها حلقات أخرى من الإفادات والإضافات، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

تم عمل هذا الموقع بواسطة