بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين أما بعد:
فإن علاقة التعليل بالمقاصد علاقة وطيدة، بل هي لب علم المقاصد إن شئنا التدقيق وركنه الأول كما نص ابن تيمية، وتصل العلاقة إلى الدرجة التي لا يمكن معها درك مقاصد الشارع حال جهل أو غياب علة الحكم، كما أن الحاجة تزداد إلى معرفة المقاصد بقدر ازدياد حظ الناظر من العلوم الشرعية كما قرره ابن عاشور.
ولاشك أن معرفة المقاصد بالنسبة للمسلم عظيمة، إذ تعطيه من المناعة ما يكفي لممارسة حضوره التعبدي في هذه الحياة، كما أنها تمارس نوعا من المناعة العقلية ضد الغزو الفكري والعقدي وكل أنواع التهديد لتلقي مقررات الشريعة وأحكامها.
وإذا كان لعلماء الشريعة كبير اهتمام بموضوع التعليل المقاصدي، فإن علماء الغرب الإسلامي كان لهم عناية خاصة بجانب المقاصد وتعليل الأحكام، مما طبع إنتاجهم الفقهي والأصولي والتفسيري بالطابع العقلاني الذي يميز الاشتغال المقاصدي، وفي كل مناحي الاجتهاد التفسيري والفقهي، وقد نالت أحكام الأسرة حظا وافرا من الدرس والاجتهاد في مجال تعليل المقاصد الشرعية، وهي اليوم تمثل رصيدا "حيا" و "مستأنفا" قابلا للاستثمار في عصرنا مع تعاظم الأسئلة وتكاثر التحديات، يمكن أن نتعلم من خلاله منهجية البحث في العلل المقاصدية وملاءمتها مع روح العصر.
لقد اعتنت الباحثة الدكتورة وفاء توفيق في بحثها _النفيس والدقيق_ بتتبع مجاري التعليل المقاصدي عند مفسري الغرب الإسلامي في موضوع أحكام الأسرة من القرن الرابع إلى القرن الخامس عشر الهجري، ولم تكتف بتجميع الآراء، وإنما اجتهدت بمقارنتها بآراء المعاصرين مع دراسة وافية لخط التطور الذي عرفه الاجتهاد في الموضوع، وقد نجحت إلى حد كبير في فتح المجال في هذا البحث الذي يأخذ قيمته من قيمة الأسرة في بنية المجتمع الإسلامي وضمان استقراره وتوازنه.
لقد خاضت الباحثة موضوعها بنفس اجتهادي متحرر من كل نزعة تقليدية، عارضة الآراء على محك النظر والنقد، معتنية بتتبع القواعد والأصول التي تأسس عليها التعليل المقاصدي الذي ينزل منزلة فلسفة الشريعة في تقرير الأحكام الشرعية.
موضوع الأسرة يحتاج اليوم مجتهدين بعقليات رصينة لكنها متفتحة، يجمعون بين معرفة التراث الفقهي والأصولي، والاطلاع الواسع على المدونات القانونية التي تروم معالجة أوضاع المجتمع والأسرة وتأطير مشاكلهما من خلال القانون والمساطر الوضعية، ذلك أن كثيرا من الاجتهادات الوضعية تجد أصلها ومرجعها في اجتهادات وتعليلات تراثية يتسع مجال القول لها من دون مصادمة لروح الشريعة، ولعل هذه الدراسة تقدم خدمة للباحثين في القانون أيضا.
ونحن في مركز ابن غازي للأبحاث والدراسات الاستراتيجية سعداء بنشر هذا العمل للدكتورة وفاء توفيق وهي واحدة من الباحثات اللواتي يفخر بهن المركز وبنضالهن المعرفي الذي يتطلب إلى جانب التزام الباحث بقضايا أمته صبرا على التكوين، معتقدين أن مثل هذا العمل يقدم أكثر من خدمة للأمة؛ إذ إلى جانب قيمته العلمية والمعرفية في مجال الأصول والمقاصد والتفسير، يعمل هذا البحث، وهو موضوع إصلاحي، على تنمية الحس التثقيفي والتربوي في مجال الأسرة والمجتمع.
والله نسأل أن يجازي خير الجزاء صاحبة هذا العمل، وكل من كان سببا في خروج هذا العمل العلمي ليستفيد منه المتخصصون.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين