لقد ظلت الترجمة جسرا يربط الثقافات والحضارات فيما بينها، تنقل المعارف العامة والنوعية مثلما تسعى لنقل المشاعر الجمالية والذوقية التي رسمتها اللغة الإبداعية عبر وسيط اللغة، ولم تكن المهمة في مجال الإنسانيات سهلة على الإطلاق، فإذا كانت المعارف الحقة بسبب قيد الشفافية واللاقصدية أحادية الدلالة ولا تحتاج إلى جهد كبير مما يساعد تأويليا في الحفر عما يناسب في الأنساق اللغوية المتبادلة، فإن الأمر في مجال الروح وعلوم الإنسان وبخاصة على مساحة الإبداع الفني كانت تلاقي صعوبات كثيرة لا يوازيها إلا حجم التحديات التي رفعها المبدعون في تفجير اللغة وركوب الخيالات الجامحة التي تصنع عوالم لها موسيقاها الخاصة وهندستها اللاإقليدية التي ظلت على الدوام تمارس غواية على الفلاسفة والنقاد وعشاق الكلمة على حد سواء..
في اللغة الإبداعية التي هي مزيج من الصورة والصوت والروح اللامرئية والمشاعر المتطايرة والمتداخلة، ظلت الترجمة تاريخيا تتحايل من أجل التقاط أكبر قدر من عناصر العملية الإبداعية واعية في ذات الوقت بصعوبة الإحاطة بكل التفاصيل، لكنها كانت واعية مقتنعة وقانعة بما تتسع له رؤية المترجم في اللغة الهدف أو لنقل فهمه وتأويله لما يتفاعل معه ويعيد كتابته وإبداعه..ومن الجاحظ إلى كولريدج مرورا بقامات كثيرة كان هناك تاريخ من الترجمة الشعرية ومعها شك كبير لا يفارق هذه التجربة عن إمكانية ترجمة "الشعر"..عن إمكانية ترجمة "التجربة الشعورية" بلسان آخر..لكن المغامرة ظلت متواصلة ومفيدة..ما دامت "الترجمة" تقدم نفسها فعل قراءة مفتوحة..
إن اللغات ليست مجرد أنساق تواصلية فارغة تنقل "المعنى" كما لو كان ماء ينساب ويأخذ شكل ما يقع فيه من ظروف وأوعية..إن كل لغة هي تقطيع خاص للعالم كما يخبرنا أندري مارتنيه، إن كل لغة تختزن رؤية للعالم مضمرة وظاهرة هي التي تحدد عيش الإنسان في الكون لأنه حين يوجد يوجد في اللغة وباللغة، واللغة مثلما نسكنها فهي تسكننا أيضا بما تمنحه لنا من جوازات ومجازات نُعَبِّرُ ونَعْبُرُ بها ومن خلالها عن وجودنا الفعلي والرمزي..والإنسان كما يخبرنا إرنست كاسيرر كائن رامز..
هذا البحث الذي نسعد بتقديمه في مركز ابن غازي للأبحاث والدراسات الاستراتيجية للباحث الدكتور رشيد حجيرة، هو محاولة "شجاعة" يأخذنا فيها الباحث، وهو المتمرس في المجالين الشعري والترجمي إلى رحلة ماتعة يطوف بنا عبر تاريخ فكرة "النقل" و"الترجمة" بين الفضاءين العربي والغربي، ويعرفنا بالمحن والاختبارات والانكسارات التي مرت بها الترجمة ونظرياتها عبر حقول الفلسفة والهيرمينوطيقا والنصوص الروحية، مستعينا باطلاعه الواسع على تاريخ الأدب وتاريخ الأفكار ومستفيدا من خبرته في تدريس المدارس الشعرية والمذاهب الفنية والجمالية في التراث كما في الأزمنة المعاصرة والحديثة لسنوات عديدة، منصتا جيدا لنصوص النقد العربي القديم ومرهفا السمع لأصوات الحداثة الشعرية المتعددة، ذلكم أن الحداثة لا يمكن المرور إليها إللا باستيعاب جيد للقديم، ومستلهما روح الشعر التي تسكنه ولم يستطع التخلص منها حتى وهو في لحظات القول عن القول الشعري؛ أي ما يفترض أن لا يتورط فيه الذاتي إلا بالقدر الذي يدافع فيه عن الموضوعي..وهي في نظرنا مزية لا تحصل بين يدي كل باحث..
لقد نجح الدكتور رشيد حجيرة في أن يكون وفيا لمقتضى البحث في موضوع الرحلة والانتقال الثقافي والفني لكثير من العناصر/الكائنات الموسيقية والتصويرية والأسطورية من فضاء إبداعي إلى فضاء إبداعي آخر، فانتقل بالقارئ عبر ممارسة نقدية جمع فيها ذوق الشاعر وخبرة الباحث وتسلحه بالأدوات المنهجية التي تمكنه من التوغل في مجاهيل القول الشعري وتأويلاته..مقارنا بين الكبار في الضفتين مفتشا بعين الناقد عن التشاكلات ومواطن التأثير والتأثر..ليصل بالباحث إلى الأهمية البالغة للنصوص المترجمة في إحداث دينامية شعرية في الفضاء الإبداعي العربي..
في الختام نرجو أن ينفع الله بهذا العمل وأن يكون له ما بعده مما نعده إضافة نوعية للمكتبة العربية في ميدان الشعر والترجمة والمثاقفة..
والسلام عليكم ورحمة الله