في المقال الأول تعرضنا لمفهوم المشاركة السياسية، ورأينا كيف أنه لا يمكن اختزاله عند مفهوم المشاركة الانتخابية، ثم توقفنا مع خيار المشاركة من داخل الحقل السياسي الرسمي الاستبدادي بغية إصلاحه، ولاحظنا أنهما خطان تجمعهما عناوين ويختلفان حول أخرى، وتوقفنا عند المقاطعة السياسية التي تنشط كلما كان النظام السياسي منعدم الشرعية أو ناقصها. ونتوقف في هذا المقال عند مفهوم الاعتزال السياسي بالمصطلح القرآني النبوي والذي يبين المواقف الواجب اتخاذها عند كل مرحلة تاريخية، مع الأخذ بعين الاعتبار موازين القوى بين المستضعفين والمستكبرين، بما يخدم الدعوة في كل أحوالها، وأولاها عدم التنازل للباطل عن مبادئها.
وأعتزلكم وما تدعون إن أقوى صور المقاطعة هو مباينة كل مفردات الواقع القائمة مباينة كلية بهجرة الأرض بعد حصول اليقين باستحالة إصلاحه، وهي صورة تحدث عنها القرآن الكريم بلفظ “الاعتزال”، والشاهد في ذلك أن الله عز وجل قص علينا سيرة الخليل إبراهيم عليه السلام والقرار الذي اتخذه بهجر قومه بعد طول مكث ودعوة دون حصول استجابة، فقال على لسان نبيه: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً 1 ، وقد خرج عليه السلام من بلد الكلدان عازما على الالتحاق بالشام، حيث عوضه الله عن قومه بخير منهم، قال تعالى: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً 2 .
ونجد صورة أخرى لهذه المقاطعة العقدية التي عبر عنها في القرآن الكريم مرة أخرى بلفظ الاعتزال مع فتية الكهف، قال سبحانه وتعالى عنهم: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً 3 .
والمشترك في الوضع بين إبراهيم عليه السلام وفتية الكهف إيمانهم وسط قوم اشترك ملأهم وقاعدتهم في الكفر، فودوا لو أبادوهم في أقرب سانحة، لذلك يلاحظ أن الله عز وجل مدح اعتزالهم بأن وهب لإبراهيم صلى الله عليه وسلم الذرية النبوية؛ ونشر رحمته على الفتية. فهل يلجأ إلى هذا الأسلوب ويمتدح في واقع مغاير لواقعهم؟ ومتى يكون الاعتزال إيجابيا ومتى يكون سلبيا؟
لا شك أنه بعد أن عم الإسلام ديار المسلمين فإن الاعتزال العقدي لا مسوغ له – إلا أن يكون المرء تكفيريا وهذا لا كلام معه- إذ إن هجرة المؤمنين ديارهم عند أي ابتلاء؛ من دخول مستعمر خارجي أو احتكار للسلطة من جمع يحاربون الله ورسوله، يسقط كل المفردات المرتبطة بالجهاد، ويجعل هذا الدين بلا أنصار.
ولكن هجرة أبناء حركة إسلامية أوطانهم بعد أن يكونوا قد استفرغوا جهدهم في الدعوة إلى الله وسط صنوف من التعذيب والتنكيل والمتابعات من طرف السلطة الحاكمة، وطلبهم اللجوء السياسي في بلد من البلدان أمر له أكثر من مسوغ شرعي، ويكون اعتزالهم للواقع على كراهة منهم، ويعد اعتزالا سياسيا لا اعتزالا عقديا، فلن يبلغ بأهل الوسطية أن يحكموا على مجتمعاتهم بالكفر. فإنما الشعار: دعاة لا قضاة.
بين اعتزال الفتنة واعتزال الشأن العامإن رأس الإسلام وعموده وذروة سنامه هو الجهاد، وقطب رحى الجهاد هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا أمر حث الله عز وجل عليه المؤمن سواء كان فردا كما نجد في وصية لقمان لابنه: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ 4 ، أو في جماعة: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 5 .
وقد امتدح الله القائمين بواجب الأمر بالقسط، فقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ 6 ، قال ابن العربي المالكي معلقا على الآية: قال بعض علمائنا: هذه الآية دليل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وإن أدى إلى قتل الآمر به. وقد بينّا في كتاب “المشكلين” الأمر بالمعروف والنهيَ عن المنكر وآياته وأخباره وشروطَه وفائدتَه. وسنشير إلى بعضه ههنا فنقول: المسلمُ البالغ القادِرُ يلزمه تغييرُ المنكر؛ والآياتُ في ذلك كثيرة، والأخبارُ متظاهرة، وهي فائدة الرسالة وخلافة النبوة، وهي ولاية الإلهية لمن اجتمعت فيه الشروط المتقدمة. وليس من شرط/ه أن يكون عدلا عند أهل السنة) 7 .
فهل يقبل من مؤمن عذر إذا استقال من ميدان التهمم بالشأن العام، وانصرف إلى خويصة نفسه، واعتزل المجتمع دون استفراغ جهد في إصلاحه، ولا مواجهة مع ظلمته؟
إن الله عز وجل لم يشرع في كتابه موقف الحياد من الأحداث الجسام، بل إن اقتتلت فئتان مؤمنتان وجب الاصطفاف ضد الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله، فلا يمنع إيمان تلك الطائفة من مقاتلتها على بغيها، والمؤمن مأمور أن يكون مع الحق وإن قل أهله، وضد الباطل وإن كثر أنصاره، لكن ما العمل إذا اختلط الأمر حتى لا يعلم مؤمن مع أي من الفريقين يصطف؟ وأي الفئتين هي الباغية؟ إن المؤمن هنا لا يصرفه عن الجهاد إرادة كسولة تبغي عافية الجبناء بقدر ما يمنعه من الاصطفاف مع أهل الحق صعوبة في الفهم وتقدير الأمور.
إن اختلاط الحق بالباطل حتى لا يدرى الخيط الأبيض من الخيط الأسود يسمى باللفظ النبوي فتنة، فإذا كانت؛ فإن وصية الرسول صلى الله عليه وسلم عندها للمؤمن هو الاعتزال والمقاطعة السلبيين المنتظر صاحبهما أن تنقشع فيه الأحداث حتى يعلم المسار، قال الرسول صلى الله عليه وسلم لصحابته الكرام: “إنها ستكون فتن، ألا ثم تكون فتنة القاعد فيها خير من الماشي فيها، والماشي فيها خير من الساعي إليها. ألا، فإذا نزلت أو وقعت، فمن كان له إبل فليلحق بإبله. ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه. ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه. قال، فقال رجل: يا رسول الله! أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر. ثم لينج إن استطاع النجاء. اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت ؟ اللهم هل بلغت ؟ قال، فقال رجل: يا رسول الله! أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين، أو إحدى الفئتين، فضربني رجل بسيفه، أو يجئ سهم فيقتلني؟ قال: يبوء بإثمه وإثمك. ويكون من أصحاب النار” 8 .
لذلك لما وقعت الفتن الجسام بين الصحابة الكرام استقال جمع من الصحابة الأحداث كلها عملا بالنصيحة النبوية بعد أن أشكل عليهم الأمر، فقد “قيل لسعد بن أبي وقاص: ألا تقاتل! فإنك من أهل الشورى وأنت أحق بهذا الأمر من غيرك ؟ قال: لا أقاتل حتى يأتوني بسيف له عينان ولسان وشفتان يعرف الكافر من المؤمن، قد جاهدت و أنا أعرف الجهاد ولا أنجع بنفسي إن كان رجلاً خير مني” 9 ، كما أن كعب بن سور الأزدي طين عليه بيتا، وجعل فيه كوة يتناول منها طعامه وشرابه اعتزالا للفتنة) 10 ، قبل أن تقنعه أمنا عائشة بالخروج معها، وعرض الإمام علي على أسامة بن زيد الدخول معه في أمره، فرفض قائلا: يا أبا حسن، إنك والله لو أخذت بمشفر الأسد؛ لأخذت بمشفره الآخر معك؛ حتى نهلك جميعا أو نحيا جميعا، فأما هذا الأمر الذي أنت فيه؛ فوالله لا أدخله أبدا) 11 .
اعتزل بعض الصحابة الكرام الفتنة ولزموا دورهم واعتزلوا الشأن العام كله، لا يأمرون ولا ينهون منتظرين أن تنقشع السحب السوداء عن سماء المسلمين ليتبين الطريق؛ فيتحدد عندها المسار ليبدأ المسير. موقف الصحابة هذا تم تنزيله في تاريخ المسلمين رغم وجود الفارق، إذ أصل فقهاء وعلماء وأهل تربية من موقفهم مشروعية اعتزال الظلمة والبغاة اعتزالا تاما بمفارقة الديار واعتزال الشأن العام كله، فخلا الجو لسلاطين ظلمة سودوا تاريخ المسلمين بصفحات من دماء زكية أهريقت بغير جرم، وإنما العلماء والربانيون هم أول المخاطبين بأن يكونوا من الذين يأمرون الناس بالقسط، فإن صمتوا، سياسة أصيلة من عندهم، فعلى القسط والعدل السلام.
لقد اعتزل بعض الصحابة الفتنة بسبب عدم تبينهم المصيب من المخطئ فيها، لكن فقهاء أجلاء ذهبوا إلى استحباب هجران البلدة التي يقع فيها إظهار المعصية، فإنها سبب وقوع الفتن التي ينشأ عنها عموم الهلاك. قال ابن وهب عن مالك: تهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهارا. وقد صنع ذلك جماعة من السلف) 12 ، ولعمري إن اعتزل موسى الناس فرارا بدينه، فمن ينتظر أن يقودهم غير السامري! ولعمري إذا تركت السفينة يخرقها من يسكن أسفلها، فكيف يأمن الساكنون أعلاها على أنفسهم!
إن كان اعتزال فتنة نهارُها كليلها بسبب عدم قدرة تمييز أهل الحق عن أهل الباطل أمرا حث عليه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فإن اعتزال الشأن العام وترك الأمور إلى الظلمة يعيثون في الأرض فسادا أمر نهانا الرسول صلى الله عليه وسلم، وكيف لا وقد أمرنا شرعا بمقاومتهم والنهوض ضدهم ولو كان الفرد خلوا من الأنصار. ألم يخبرنا الصحابة رضي الله عنهم أنهم بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم “على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا وعلى أن لا ننازع الأمر أهله وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة” 13 ؟ ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: “سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله” 14 ؟
“لو أن الناس اعتزلوهم” لذلك كانت القومة ضد البغاة هي المسار الأصح، وهو نهج اتبعه الإمام علي كرم الله وجهه، واستمر مع الإمام الحسين الذي قتل شهيدا في كربلاء على يد يزيد بن معاوية، الذي قام ضده في المدينة جمع من الصحابة وأبناء الصحابة؛ يقودهم عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة الذي وفد في بنيه الثمانية على يزيد، فأعطاهم مئتي ألف وخلعا. فلما رجع، قال له كبراء المدينة: ما وراءك؟ قال: جئت من ثم رجل لو لم أجد إلا بني لجاهدته بهم. قالوا: إنه أكرمك وأعطاك. قال: وما قبلت إلا لأتقوى به عليه. وحض الناس فبايعوه) 15 ، فكانت موقعة الحَرَّة لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين. وأصيب يومئذ عبد الله بن زيد بن عاصم حاكي وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، ومعقل بن سنان، ومحمد بن أبي بن كعب، وعدة من أولاد كبراء الصحابة. وقتل جماعة صبرا. وعن مالك بن أنس، قال: قتل يوم الحرة من حملة القرآن سبع مئة) 16 .
فإن ألجأت الضرورة آل بيت وصحابة وأبناء صحابة وعلماء إلى الصمت فإنما كان الأمر انتظارا لسانحة تسنح، لا فقه ركون وتصالح مع الذين ظلموا. لقد كان الأئمة الأعلام من آل البيت يقومون ضد السلطان المستبد فيجدون أكبر السند من أئمة الفقه الكبار، ولنلحظ هنا كيف ساند الأئمة أبو حنيفة ومالك والشافعي أبناء عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي في قوماتهم، ليعلم أن القومة ضد الظلمة المستبدين هي الخيار الأول عند آل البيت وعلماء السنة.
لقد توفي عبد الله بن الحسن العلوي معتقلا في سجن المنصور العباسي بعد أن خلف أربعة أبناء: محمد، وإبراهيم، ويحيى، وإدريس. وقد قام كل منهم في بلدة من البلدان مساندا بأكابر فقهائها وعلمائها مستجيبين في ذلك لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: ““ني أوشك أن أدعى فأجيب، وإني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله عز وجل، وعترتي: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي. وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروني بم تخلفوني فيهما” 17 .
فأما محمد النفس الزكية فقد قاد قومته في المدينة، وكانت أفعاله توصف بشدة شبهها بأفعال جده النبي صلى الله عليه وسلم، وسانده أكابر الفقهاء، حتى خاف المنصور على ملكه، فكان يأخذ على الناس أيمان البيعة له طوعا وكرها، ولهذا لما أفتى مالك رضي الله عنه بسقوط يمين الإكراه، أنكرها الولاة عليه، ورأوها قادحة في أيمان البيعة. ووقع ما وقع من محنة الإمام رضي الله عنه) 18 .
وأما أخوه إبراهيم فقد قاد قومته في البصرة، فخرج معه كثير من القراء والعلماء، منهم: هشيم، وأبو خالد الأحمر، وعيسى بن يونس، وعباد بن العوام، ويزيد بن هارون، وأبو حنيفة؛ وكان يجاهر في أمره ويحث الناس على الخروج معه كما كان مالك يحث الناس على الخروج مع أخيه محمد. وقال أبو اسحق الفزاري لأبي حنيفة: ما اتقيت الله حيث حثثت أخي على الخروج مع إبراهيم فقتل! فقال: إنه كما لو قتل يوم بدر. وقال شعبة: والله لهي عندي بدر الصغرى) 19 .
وأما أخوهما يحيى فقد قام على الرشيد وأخيه في اليمن، وبث دعاته في الأرض، وبايعه كثيرون من أهل الحرمين واليمن ومصر والعراقين. وبايعه من العلماء: محمد بن إدريس الشافعي، وعبد ربه بن علقمة، وسليمان بن جرير، وبشر بن المعتمر، والحسن بن صالح وغيرهم) 20 .
وأما أخوهم إدريس فإنه بعد نجاته من موقعة فخ، التحق بالمغرب الأقصى حيث استقبله أهلها فولوه عليهم، وتلك كانت بداية دولة الأدارسة.
لقد استمرت قومات القائمين خاصة في القرون الأولى من تاريخ المسلمين، وكان الخروج على البغاة بالسيف هو الأصل ، قبل أن يتغير الحال ويصبح هذا القول مذهبا للسلف قديم، لكن استقر الأمر على ترك ذلك لما رأوه قد أفضى إلى ما هو أشد منه) 21 .
إن القومة لا تكون من غير مقدمات، بل لا بد لها من شروط موضوعية وذاتية، وظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية، وقبل ذلك ومعه بزوغ مجدد يجمع الله عز وجل عليه القلوب، وينتشر دعاته في الأصقاع لتدول دولة جور استقبالا لأخرى تقوم على تقوى من الله، لا تبغي في الأرض علوا ولا فسادا. لكن ما العمل إن انتفت الشروط؟ ما يعمل العالم المجاهد الذي يقع في نفسه اليقين أنه إن نهض واستنهض فإنما يغامر بحياته وحياة أنصاره بما أن كل الحسابات لا تفرز إلا نتيجة واحدة: الهزيمة؟ وبماذا يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم ساعتها؟
لقد درج العلماء والفقهاء على إبراز اختيارين في التعامل مع السلطان الجائر: إما منابذته بالسيف أو مسالمته وطاعته وإن جار وخرب الديار، وكلا الفريقين يستشهد بنصوص قرآنية وحديثية لا نقاش حول صحة نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ولكن الاختيار الأول غير مقدور عليه في كل حين، كما أن الاختيار الثاني يورث الأمة الاستكانة واستحلاء العيش الذليل إن لم يوضع في سياقه. ونتساءل: هل ثمة اختيار ثالث تركه الرسول صلى الله عليه وسلم لأتباعه ومجددي سنته؟
نتخذ للاختيار الثالث حديثا كاشفا نجعله المحور في هذا الباب لأهميته، وجلاء رؤيته، ووضوح عبارته، وإمكانية تنزيله رغم تباين الظروف وتبدل الأزمان. قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يهلك الناسَ هذا الحي من قريش. قالوا: فما تأمرنا؟ قال: لو أن الناس اعتزلوهم” 22 ، فهذا الحديث يفتح لنا بابا فقهيا عظيما في كيفية التعامل مع أنظمة الاستبداد التي ما زال عودها شديدا، وقوة الناهضين ما زالت لم تستو بعد على سوقها، فيأمر الرسول صلى الله عليه وسلم عندها بأن اعتزال الظلمة المهلكين للأمة هو المفتاح، ويجب أن نلحظ أن الحديث لا يدعو إلى اعتزال الظلمة فرادى، بل يدعو إلى العمل حتى يعتزلهم الناس، وذاك يفترض بداهة أن هناك دعوة وسطهم وبينهم لاعتزال مهلكي الأمة ومقاطعتهم، عبر إسقاط هيبتهم في نفوس الناس، وتثبيت كراهيتهم وبغضهم وهو أدنى الإيمان الذي يكون بالتغيير القلبي، ويكون المقدمة الأولى من أجل حصول التغيير باليد عندما يشتد ساعد المقاطعة والاعتزال والممانعة، فيلجأ عندها إلى وسائل أكثر قوة وأشد مضاء.
إن هذا الحديث ليس يتيما في بابه، بل تنده أحاديث أخر، من بينها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله، ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد؛ فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده. فلما فعلوا ذلك، ضرب الله قلوب بعضهم ببعض. ثم قال:”لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ” إلى قوله “فَاسِقُونَ”. ثم قال: كلا! والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يدي الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، ولتقصرنه على الحق قصرا” 23 ، فهذا حيث شديد الوعيد لمن يبدأ مسيرته الجهادية جمرة على الظلمة، ثم يتدحرج من عليائه حتى يصبح الدخول عليهم ومؤاكلتهم ومشاربتهم ومعاونتهم أعز ما يطلب. وإنما الحديث دعوة إلى مقاطعة الظالمين: لا نواكلهم ولا نشاربهم ولا نجالسهم، وهذه هي الصيغة المثلى للقومة. فلو قدرنا أن نتجنب استعمال السلاح ضد الأنظمة الفاسدة، ونقاطعها حتى تشل حركتها، ويسقط سلطانه، وترذُلَ كلمتها كما فعل إخواننا في إيران، لكان ذلك أشبه شيء بروح الإسلام الذي يوصي ألا تسفك دماء المسلمين بينهم. وهذا يقتضي صبرا واستشهادا وصمودا) 24 .
وإنما الحديثان إضاءة للكلم القرآني، قال تعالى: وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ 25 ، قال أبو بكر الجصاص: الركون إلى الشيء هو السكون إليه بالأنس والمحبة، فاقتضى ذلك النهي عن مجالسة الظالمين ومؤانستهم والإنصات إليهم، وهو مثل قوله تعالى:)فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام: 68]) 26 .
في المقال الثالث والأخير من هذه الدراسة نقف عند رجال كانوا عناوين للاعتزال السياسي، وآخرين للإصلاح من الداخل.
[1] مريم: 48.\
[2] مريم: 49.\
[3] الكهف: 16.\
[4] لقمان: 17.\
[5] آل عمران: 104.\
[6] آل عمران: 21.\
[7] أبو بكرابن العربي “أحكام القرآن”. دار الجيل/بيروت. تحقيق: علي محمد البجاوي. 1/266.\
[8] صحيح مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة. باب نزول الفتن كمواقع القطر.\
[9] مستدرك الحاكم. كتاب الفتن والملاحم. وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.\
[10] شمس الدين الذهبي. سير أعلام النبلاء. بيت الأفكار الدولية لبنان. ط 2004. 1/405.\
[11] ن. م. 1/1052.\
[12] ابن حجر العسقلاني “فتح الباري في شرح صحيح البخاري” دار المعرفة/بيروت. تحقيق: فؤاد عبد الباقي. 13/10.\
[13] صحيح مسلم. كتاب الإمارة. باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها.\
[14] الحاكم في مستدركه. كتاب معرفة الصحابة رضي الله تعالى عنهم. ذكر إسلام حمزة بن عبد المطلب. وقال عن الحديث: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.\
[15] شمس الدين الذهبي “سير أعلام النبلاء” مؤسسة الرسالة/بيروت. 3/322.\
[16] ن. م.\
[17] مسند الإمام أحمد – مسند أبي سعيد الخدري. ومستدرك الحاكم- كتاب التفسير- تفسير سورة والليل إذا يغشى.\
[18] ابن خلدون. المقدمة بيروت: دار القلم. ط5/1984 ص: 209.\
[19] ابن عماد الدين الحنبلي: “شذرات الذهب” 1/214.\
[20] ابن عماد الدين الحنلي. شذرات الذهب. 1/338.\
[21] ابن حجر العسقلاني: “تهذيب التهذيب”، دار الفكر، بيروت. ط1 /1984. 2/250.\
[22] صحيح البخاري – كتاب المناقب – باب علامات النبوة في الإسلام. صحيح مسلم – كتاب الفتن وأشراط الساعة – باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل. مسند الإمام أحمد - مسند أبي هريرة رضي الله عنه.\
[23] سنن أبي داود -كتاب الملاحم- باب الأمر والنهي. سنن الترمذي -كتاب تفسير القرآن عن رسول الله- باب ومن سورة المائدة. سنن ابن ماجة -كتاب الفتن- باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.\
[24] عبد السلام ياسين -رجال القومة والإصلاح- منشورات الصفاء للإنتاج/2001. ص: 36.\
[25] هود: 113.\
[26] أبو بكر الجصاص “أحكام القرآن” دار إحياء التراث العربي/بيروت. ط 1405. 4/379.\