لا يملك المرء و هو يجلو بصر فكره في الفقه التجديدي الذي قبس من مشكاته, ومتح من نبعه عبد الحليم أبو شقة -وهو يبسط اجتهاده في قضية المرأة- إلا أن يسجل هذا الموقف الشهم، والخطوة المباركة التي تضع لبنة في صرح الفقه التجديدي الإسلامي عموما، وفقه المرأة المسلمة خصوصا. بإزاحته لكل العوائق النفسية، والذهنيات التجزيئية التي تقطع طريق الفهم والاعتبار، وسبيل التمثل والاستبصار بمجمل القضايا المطروحة على بساط الاجتهاد الإسلامي المعاصر.
إن مكمن الداء ومعقد الإشكال -في قضية المرأة وسواها من القضايا- ما أصيب به العقل المسلم من شلل فكري، وعطل اجتهادي أقعده عن النظر المجرد، والفهم المسدد، وقيده بأغلال التقليد، وآصار الجمود. هذا التقليد -الذي شل إرادة العقل المسلم- حال بيننا وبين أن نقبس من مشكاة النبوة، وفهمها الراشد، ونرد حياض العلم النبوي الصافية، ونتتلمذ على السيرة النبوية الغراء.
ومن ثم أصبح العقل المسلم عاجزا عن مقاربة القضايا المطروحة ومنها قضية المرأة؛ لذا نعتقد أن السبيل الأقوم والمسار الأصوب لتحرير العقل المسلم تحريره من التقليد وآفاته، وتخليصه من الجمود وسيئاته. حتى ينهض هذا العقل من كبوته، ويستفيق من غفوته، ويستعيد عافيته ليقارب القضايا بفهم راشد، ونظر سديد، متوسلا إلى ذلك بالآليات الأصولية، والفهوم المقاصدية التي أرست منهجا سليما، ونظرا قويما للاجتهاد الإسلامي وطرقه ومسالكه.
شأن المقلد أن يسكت كما نص على ذلك حجة الإسلام أبو حامد الغزالي حين قال: «شرط المقلد أن يَسْكُتَ ويُسْكَتَ عنه، لأنه قاصر عن سلوك طريق الحجاج. ولو كان أهلا له لكان مستتبَعا لا تابعا، وإماما لا مأموما. فإن خاض المقلد في المحاجة فذلك منه فضول، والمشتغل به صار كضارب في حديد بارد، وطالب لإصلاح فاسد، وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر»[1]. وهذا حال كثير ممن أنكروا الحقوق المكفولة بكفالة الشرع الحكيم للمرأة المسلمة؛ فراحوا يشنعون على من خالف رأيهم، وتجافى عن سبيلهم، وعاب مسلكهم، وسفَّه منطقهم.
سنعرض في هذا المقام رؤيته التحريرية، سالكين في ذلك الخطة التالية:
الفصل الأول: كتاب "تحرير المرأة في عصر الرسالة"
المبحث الأول: عبد الحليم أبو شقة عطاء وبلاء
وقد تصدى أبو شقة لإحقاق الحق في هذه القضية الخطيرة، وتبيان وجه الصواب فيها بشجاعة محمودة وإيمان راسخ. يقول يوسف القرضاوي الذي عرف المؤلف، وخبر معدنه، واطلع على أحواله: «إن الذين عرفوه أعجبوا به وقدروه، واعترفوا له بالقدرة على التفكير الهادئ العميق، إلى جوار النظرة النقدية الإصلاحية، إلى الشجاعة في إبداء ما يرى أنه الحق، إلى الصدق والاستقامة التي جعلت ظاهره كباطنه. وأشهد لقد عرفته عن كثب منذ أكثر من ربع قرن من الزمان.. فما عرفت فيه إلا إيمانا صادقا، وقلبا نقيا، وخلقا رضيا، وحسا مرهفا، وعقلا ناقدا...»[2].
المبحث الثاني: الكتاب: غايته ومكانته
يعد الكتاب في أساسه دراسة اجتماعية فقهية عن المرأة في عصر الرسالة. وقد اجتهد مؤلفه في أن يحوي كل النصوص التي تشير إلى المرأة من قريب أو بعيد، في حياتها الخاصة وحياتها العامة، إلى طبيعة علاقاتها الاجتماعية ونشاطاتها المتنوعة...[3].
وقد وضع المؤلف لدراسته هدفا عاما لخصه بقوله: «تحرير العقل المسلم المعاصر؛ تحريره من قيود هائلة، وموازين باطلة، وأفكار فاسدة سيطرت عليه عبر القرون، فأعجزته وشوهته، فإذا تحرر من كل ذلك استيقظ وعمل على نور من هدى الله... لأنه هو السبيل الذي لا سبيل غيره إلى التحرير الكامل والأصيل للمرأة، وتحرير الرجل معها»[4].
لقي كتاب: "تحرير المرأة في عصر الرسالة" قبولا لدى فئات عريضة من العلماء والمفكرين ممن خلعوا عن أنفسهم ربقة التقليد، وكسروا عن أعناقهم طوق الجمود؛ فانتصب للثناء على الكتاب ومؤلفه جم غفير منهم، شدُّوا على يد مؤلفه مشجعين ومنوهين بالمنهج السليم الذي سلكه في حجاجه على حقوق المرأة وقضاياها. يقول أحدهم وهو الشيخ محمد الغزالي رحمه الله مشيدا بالكتاب، مثنيا على صاحبه: «هذا الكتاب يعود بالمسلمين إلى سنة نبيهم دون تزيد ولا انتقاص، لأنه كتاب وثائق ومؤلفه عالم غيور على دينه، رحب المعرفة، متجرد لنصرة الحق، كره الجدل الذي برع فيه أنصاف العلماء، وآثر مسلكا قائما على عرض المرويات كما استقاها من البخاري ومسلم...»[5].
ويمضي مبرزا قيمة الكتاب، وحاجة الأمة إليه في وقت وجدت فيه فهومٌ معوجة، وآراء شاذة، ومواقف ظالمة في حق المرأة. يقول الغزالي في تقريظه للكتاب: «وددت لو أن هذا الكتاب ظهر منذ عدة قرون، وعرض قضية المرأة في المجتمع الإسلامي على هذا النحو الراشد. ذلك أن المسلمين انحرفوا عن تعاليم دينهم في معاملة النساء، وشاعت بينهم روايات مظلمة، وأحاديث إما موضوعة، أو قريبة من الوضع؛ انتهت بالمرأة المسلمة إلى الجهل الطامس، والغفلة البعيدة عن الدين والدنيا معا...»[6].
أعمل المؤلف في عرض كتابه منهجا معلوما، وخطا مرسوما مكنه من بناء نسق فكري يدحض بآلياته حجج الخصوم، ويكشف على ضوئه تهافت آرائهم، وتداعي مسَلَّماتهم. وقد اعتمد في بنائه للرؤية التحريرية التي بسطها في كتابه: "تحرير المرأة في عصر الرسالة" على المنهج الاستقرائي، عارضا على ضوئه جميع النصوص ذات الدلالة على موضوعات البحث، وهي نصوص واضحة الدلالة لأنها في الأعم نصوص تطبيقية عملية، ولا حاجة معها لبذل جهد كبير في الاستنباط، مع ذكر بعض أقوال الفقهاء بغرض إثبات دلالة النص، وليس كل الأقوال سواء مؤيدة أو مخالفة[7].
ولقد كان من ثمرات إعمال المؤلف لهذا المنهج تحقيقه نوعا من التصنيف الموضوعي للنصوص المتعلقة بالمرأة في القرآن الكريم، وصحيحي البخاري ومسلم. يقول يوسف القرضاوي مبرزا قيمة هذا المنهج وفائدته كما يظهر في الكتاب: «وهو في دراسته هذه لا يعتمد على قول فلان أو علان من الناس، بل يدع النصوص وحدها تتكلم وتحكم. ولهذا أكثر من النصوص عمدا وقصدا، لتتولى التعبير عما يريد توضيحه وتأكيده وتثبيته من القيم والمفاهيم. وهو لا ينقل عن العلماء والشراح إلا بالقدر اللازم للشرح والتوضيح عند الغموض أو الاشتباه أو الخلاف»[8].
المبحث الرابع: أهم نتائج الكتاب وخلاصاته
وهاهي أهم الخلاصات والنتائج كما كشف عنها المؤلف في كتابه القيم "تحرير المرأة في عصر الرسالة":
-قدر من التزين المعتدل في الوجه والكفين واللباس مشروع في حدود ما يتعارف عليه نساء المؤمنين.
-شاركت المرأة في الحياة الاجتماعية واطرد لقاؤها بالرجال حتى شمل جميع المجالات العامة والخاصة.
-تأكيد حق اختيار المرأة لزوجها، وتأكيد حقها أيضا في فراقه إذا كرهته دون مضارة منه.
-توزيع المسؤوليات بين الزوجين كان يصاحبه تعاون بينهما يؤدي إلى كمال تلك المسؤوليات.
هذا بعضٌ مما انتهى إليه المؤلف من نتائج وتوصيات[9] استقاها من وحي تلمذته على النموذج النبوي، الفهم الراشد الذي سرى في جسم المجتمع المسلم -إبان تنزل الوحي- ببركة المصحوب الأعظم r
الفصل الثاني: الرؤية التحريرية عند عبد الحليم أبي شقة
المبحث الأول: تعدد الزوجات بين الإطلاق والتقييد[10]
كما نصت السنة الغراء على الحالات التي يصبح فيها التعدد أمرا ملحا. من هذه الدواعي:
وقد يغيب عن بال كثيرين مما يطلقون أمر التعدد على عواهنه ما ورد في السنة الصحيحة أن رسول الله r أقر بأن التعدد يسبب ضررا كبيرا لبعض النساء، وذلك بسبب غيرتهن البالغة. كما في قصة علي رضي الله عنه حين شرع في خطبة امرأة أخرى على فاطمة رضي الله عنها دون إعلامها، ثم عدوله عن ذلك بسبب غضب رسول الله r لابنته كما روى ذلك البخاري ومسلم[11].
المبحث الثاني: الطلاق ومقاصد التشريع[12]
قال الإمام الشاطبي: «ثبت الدليل الشرعي على أن الشريعة إنما جيء بالأوامر فيها جلبا للمصالح... فإذًا لا سبب مشروعا إلا وفيه مصلحة لأجلها شُرع، فإن رأيته وقد انبنى عليه مفسدة فاعلم أنها ليست بناشئة عن السبب المشروع... وإنما هي ناشئة عن أسباب أُخر مناسبة لها»[13].
بهذا النظر الاجتهادي لإمام المقاصد صدَّر أبو شقة الفصل الذي أفرده للحديث عن قضية الطلاق، لَمَّا رأى أن الطلاق كحكم شرعي يراد به تحقيق المصلحة الزوجية جُرد عن مقصده، وحُوِّل عن مساره، يقول الكاساني: «إن شرع الطلاق في الأصل لمكان المصلحة؛ لأن الزوجين قد تختلف أخلاقهما، وعند اختلاف الأخلاق لا يبقى النكاح مصلحة؛ لأنه لا يبقى وسيلة إلى المقاصد، فتنقلب المصلحة إلى الطلاق؛ ليصل كل واحد منهما إلى زوج يوافقه، فيستوفي مصالح النكاح منه»[14].
إذن ليس المقصود من التنظيم تغيير أحكام الشرع، خضوعا لصرخات شاطحة منبعثة من الغرب والمفتونين به؛ بل هو ضبط لتصرفات الفرد حتى لا يخرج عن مقاصد الشرع، ويسيء استعمال ما أباحه له الشارع. وإذا أقررنا مبدأ التنظيم فالمطلوب أن تناقش صورة التنظيم فقد يكون العيب في الصورة لا في المبدأ، وعندها نبحث في الصورة المثلى، كما أنه من الضروري عمل دراسات إحصائية وميدانية قبل وضع أي نظام حتى يكون ملبيا لحاجة حقيقية لا وهمية، ومحققا لمصالح مشروعة. يؤكد أبو شقة أن المقصود من هذا التنظيم المقترح[15] هو تحقيق أمرين: -أولهما: محاولة الإصلاح بين الزوجين –ثانيهما: التأكد من توفر شروط صحة الطلاق.
[1] فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة لأبي حامد الغزالي: 22. دار البيروتي: دمشق، ط1، 1413هـ/1993م.
[3] المرجع نفسه: المجلد الأول 1/38.
[4] المرجع نفسه: المجلد الأول 1/39.
[5] المرجع نفسه: المجلد الأول 1/6.
[6] المرجع نفسه: المجلد الأول 1/5.
[7] راجع منهج الكتاب ضمن مقدمة المؤلف: المجلد الأول 1/40-45.
[8] المرجع نفسه: المجلد الأول 1/1.
[9] انظرها وغيرها مبسوطة في مقدمة الكتاب: المجلد الأول 1/45-48.
[10] لمزيد توسع وبسط وتفصيل يُرجع إلى الفصل التاسع من المجلد الثالث 5/291-311.
[12] لمزيد توسع وبسط وتفصيل يُرجع إلى الفصل الثامن من المجلد الثالث 5/255-288