ما يقع اليوم في مصر وتونس, وما سيقع في البلدان العربية التي تنتظر ساعة الانعتاق من قيد الإستبداد ومعانقة الحرية‚ كشف عن حقيقة التيار العلماني بجميع تلاوينه (يساريين-قوميين- ليبراليين). فقد كان يعتقد هؤلاء أنه بمجرد ما سيفتح الباب أمام الشعوب للاختيار الحر ستختارهم مكافأة لهم على نضالهم, لكن لعنة الإخفاقات التي طاردتهم طوال تاريخهم لم تستثنهم هذه المرة. لقد قالت الشعوب كلمتها واختارت الإسلاميين للحكم, ليكون الاختبار ليس للإسلاميين فقط بل للعلمانيين أيضا. هل سيقبلون بقواعد اللعبة الديمقراطية التي طالما تبجحوا بها ؟ هل سيقبلون بالشرعية التي أفرزتها انتخابات شفافة ونزيهة بشهادتهم؟. ليقفوا بعد ذالك على الأسباب التي جعلتهم لا يحضون بثقة الشعوب, هل المشكل في التصور والبرامج والمشاريع التي يحملونها؟ أم في ضعف قدرتهم على التعبئة وإقناع الناس ؟ لماذا اختارت الشعوب الإسلاميين ولم تخترهم؟ أين الخلل؟
لكن ما صدر من التيار العلماني كان العكس تماما. فبدل أن يقفوا وقفة صريحة مع الذات للمراجعة اختاروا الهروب للأمام وأعلنوا الحرب على واجهتين:
الأولى: توجهوا باللوم إلى الشعوب التي لم تمنحهم أصواتها. فسمعنا منهم من خرج على واجهات الإعلام المختلفة ليصب جام غضبه على الشعوب, واصفا إياها بالجاهلة وغير المؤهلة لممارسة العملية الديمقراطية ولسان حاله يقول: كيف يعقل ان تتركنا الجماهير نحن- أصحاب الفكر الحداثي التنويري التقدمي نحن أصحاب المشاريع المجتمعية والبرامج الواضحة,- وتختار هؤلاء الأصوليين, الرجعيين, الظلاميين الذين لا يملكون سوى شعارات يجملونها في "الاسلام هو الحل". ينبغي أن يعاقبوا على هذا الخطأ الفادح, ينبغي ان يدفعوا ثمن سوء اختيارهم حتى يتعلموا كيف يحسنوا الاختيار .
الواجهة الثانية: فتحوا جبهة لا هوادة فيها على الشرعية المنتخبة متدرعين بمطالب ظاهرها الاعتراض على بطء تحقيق أهداف الثورة, والوقوف على بعض الأخطاء والتعثرات, وهي أخطاء إذا نظرنا إليها في جوهرها وسياقها عادية جدا, أخذا بعين الاعتبار طبيعة المرحلة الانتقالية وحجم التركة الثقيلة التي خلفها الاستبداد . وباطنها إفشال تجربة حكم الإسلاميين وإظهارهم بمظهر العاجز عن تدبير شؤون البلاد, والانقلاب على الشرعية. مستغلين في ذلك إعلاما مضللا يريد توجيه ضربة إستباقية وتصفية حساب معركة وهمية مع الإسلاميين ,وشبابا مراهقا, لجأ إلى العنف بعد التغرير به و إيهامه بأن مجرد إنجاز الثورة ينبغي أن يغير واقع البؤس و التخلف الذي خلفه الاستبداد. كما أنهم لم يتورعوا على التواطؤ بشكل ضمني مع أزلام النظام السابق (من خلال تبرير أعمال العنف و توفير الغطاء السياسي لمرتكبيه) للإجهاز على الشرعية وإدخال البلاد النفق المسدود.
إن ما نراه اليوم في مصر لا يمت بصلة إلى سلوك معارضة ديمقراطية تستند إلى أساليب مشروعة للتعبير عن مواقفها .إنهم يضعونك أمام معادلة صعبة : ''إما أن نكون في الحكم رغم أنف الشرعية وأنف الشعوب التي لم تخترهم أو أن نحرق البلد '' إنها ديكتاتورية الأقلية .
نعم هذه المرحلة هي مرحلة التوافق, وليس من مصلحة أي فريق الاستفراد بالحكم. لكن إذا تعذر التوافق بين الفرقاء بسبب اختلاف المرجعيات , لم يبق بعد ذلك من حل سوى الاحتكام للشعب لحسم الخلاف, ومن يختاره الشعب يحكم. أما أن نتبجح بالديمقراطية و التعددية و نكيل بمكيالين, فهذا أمر غير مقبول. فالديمقراطية لا تكون ديمقراطية إلا إذا اختارتكم، و الشرعية لا تكون مقدسة إلا إذا كنتم أصحابها. أما إّذا اختارت الإسلاميين, نصبتم المحاكم و كلتم التهم و أصدرتم الأحكام الجاهزة و قلتم تلك شرعية مدنسة وجب الخروج عليها.
إنه العبث! إنها الفوضى! أقول الفوضى لأنهم لا يقدرون عواقب أفعالهم. تصوروا معي لو أجهز التيار العلماني(وليس العسكر هذه المرة كما حدث في الجزائر مطلع التسعينيات ) على التجربة الديمقراطية في مصر وتونس وهو ما لا نتمناه, لأصبحنا أمام انتكاسة خطيرة لا يمكن لأحد أن يتنبأ بعواقبها الوخيمة.
إن الشعوب تراقب وتميز بين من كان مع الشرعية و من كان ضدها,بين من يحاول استكمال أهداف الثورة وبناء المؤسسات, وبين من يعرقل عملية البناء, حتى لا تحسب إنجازا لخصمه السياسي. بين من يحاول القصاص لدماء الشهداء, و من يستغل دماء الشهداء. بين من طرد العسكر من المشهد السياسي, ومن يحرض العسكر على العودة و الانقلاب. بين من يحافظ على استقلالية الوطن ويرفض التدخل الأجنبي, وبين من يستقوى بالخارج ويطالب بالتدخل الأمريكي...لأجل ذلك نذكر هؤلاء جميعا أن التاريخ يسجل وأن الشعوب أبدا لا تنسى...
أستاذ باحث في الفكر الإسلامي