بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا ومولانا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد...
لاشك أن موضوع جماليات القرآن من أكثر المواضيع الدلالية التي بقيت بعيدا عن تناول الباحثين والمهتمين، بسبب ما يعتقده كثير منهم عن هامشيتها وفرعيتها قياسا لجوانب الأحكام والفقه التي استأثرت بأكبر طاقة من جهود العقل المسلم، حتى اعتُبر العقل المسلم معها عقلا فقهيا بالدرجة الأولى.
والواقع أن هذا الانكباب، ورغم ما كان يبرره من حاجة المجتمع لنظام قانوني يضبطه ويساعد على تدبير علاقاته ومصالحه المادية ويوحد إيقاع سيره، إلا أن الالتفات للجماليات مع غناها وتشعب مسالكها وتوفرها الكبير عبر مساحة القرآن الكريم الواسعة كانت ديدن نخبة قليلة لم يسعفها العقل الفقهي في أن تنطلق أبعد مما رسمه "الشكلانيون" أو علماء الدلالة القرآنيون من حدود.
كانت هناك فجوة كبيرة، أو لنقل بأنه كان هناك تعثر كبير في تاريخ معرفتنا العربية الإسلامية، لم يملك معه العقل الفقهي أن ينتج معرفة تفيد في تغذية جانب الذوق والروح، في الوقت الذي راكم فيه إلى حد التخمة أحكاما وشروحا وحواشي ودخل بعدها زمن الاجترار والتكرار.
إن الحاجة ملحة اليوم لإحداث فتحة في الجدار السميك، حاجة لدرس ما يستوعبه العقل من جماليات قرآنية "مُتجاوِزة" تتصل بعيدا بمتافيزيقا توحيدية تقدم تصورا مختلفا عن "التجربة الجمالية"، وعن علاقة الذات بالعالم وبالموضوع الفني، ووظيفة الجمال ودور الفن وعلاقته بمفهوم الحقيقة والدلالة في اللغة.
في هذا العمل الذي نقدمه في مركز ابن غازي للباحث الدكتور محمد تكروك، ينتقل بنا الباحث بجهد واضح ومضن عبر أفانين بلاغة القرآن الكريم وعلم المناسبة، وعلم الفاصلة، وعلم القراءات والتفسير وعلوم العربية أصواتها ونحوها وصرفها في رحلة ماتعة ليرسم خارطة جماليات القرآن الكريم وجلالياته، ويعيد لنا ألق القراءة والاستمتاع بالفروق بين "العبارات" و"الصيغ" التي تشكل في تناسقها وانسجامها جوهر "الفرادة الجمالية والفنية" للتعبير القرآني الذي يبني عالما جديدا على أنقاض عالم مستلب بلغة الألماني ثيودور أدورنو.
إن العالم الذي تبنيه جماليات القرآن عالم مختلف بتفاصيله وهندسته وتقاطيعه، وتصميمه وتوزيعه، وهو سر قيمته، لأنه يتجاوز تراكمات فلاسفة الجمال الغربيين أمثال بومغارتن وهيجل وإيمانويل كانط وبول سيزاري الذي أسسوا لعلم الجمال الغربي ولمقولاته ونظرياته التي لم تستطع التخلص من الإرث الإيديولوجي والمذهبي، وإن كان لدى بعضها نزوع للاستقلال الروحي أو الإيماني كما يسميه كاريت.
هذا البحث ينطلق من أن القرآن الكريم يرتبط بمعاني الجمال والجلال في كل ما يتصل به من نظم ومضمون ومقاصد وأبعاد شكلية، وبالتالي فهو حين يُصَور فإنه يخاطب مباشرة العقل والقلب على حد سواء، أو كما يقول محمد قطب عبد العال:"فهو يخاطب الذهن في أرقى عملياته الفكرية والإدراكية ويخترق كوامن الوجدان، فترققه حتى يصبح حيا ونابضا ومتألقا، ومن ثم يكون المنطق التأثيري آخذا بالنفس البشرية، متملكا لجوانبها وأبعادها".
إن الاستيطيقا القرآنية كما بين لنا الدكتور محمد تكروك في عمله هذا تَعْبُر اللغة لتؤسس لنموذجها الخاص، تعبُر بحساسية شديدة لتتجاوز "المادي" إلى ما وراءه، فتربط "الظاهرة" بـ"القيمة"، أو لنقل بلغة الاختصاص ، تربط "الفينومينولوجيا" بـ"الأكسيولوجيا" ربطا يملأ الشكل بالمعنى، ويجعل "للفعل" "غاية"، تعمل عناصر الزمان في القرآن، بجمالية وجلالية ورودها على ربط تلك العناصر بوظائف بانية للقيم، ومؤطرة للسلوك، وموجهة للإنسان المسلم في سيره إلى غايته التي بها اكتماله بالموت كما يقول الأصفهاني في تفصيل النشأتين، "وأن إلى ربك الرجعى".
في الختام نسأل الله تعالى أن يجعل هذا الجهد العلمي المبارك في ميزان حسنات الدكتور محمد تكروك، وأن يثيبه عليه خير الثواب وأحسن الجزاء، وأن ينفع به المهتمين بالدراسات الجمالية في القرآن الكريم. وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.