السقوط الحداثي: نقد المنهج في التعامل مع النص القرآني(محمد علواش)

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد..

فإن التعاطي مع نص الوحي ظل منذ نزوله محفوفا بوعي شديد لدى الصحابة رضي الله عنهم بخصوصيته وتعاليه، رغم نزوله بلسان عربي مبين ووفق سنن العرب في كلامها، إلا أن معرفة قصد المتكلم فيه، والتي عليها مدار الفهم، بقيت علامة على التوقي والحذر، دفعت بكثير من العلماء أن يتحدثوا عن قصد الكلام عوضا عن قصد المتكلم، ودفعت آخرين على مر العصور إلى التهيب من درس التفسير جملة وتفصيلا جريا على مذهب أبي بكر رضي الله القائل:"أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله ما لم أعلم".

لكن هذا المذهب رغم اشتهاره، لم يمنع من تفسير القرآن الكريم بالتأويلات الفاسدة التي تلوى بها أعناق النصوص لخدمة الأغراض المذهبية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية وغير ذلك، مما يدخل في جملة ما نسميه بآفة "التقويل".

والتقويل ضرب من التقصيد، والتَّقَوُّل والتَّقْوِيل عبارة عن كذب تأويلي مخصوص، وهو ضرب من الاختلاق، ومعنى تَقَوَّل عن فلان أو قَوَّل فلانا أي قال عنه أنه قال شيئا ولم يكن قاله.

وهذا الكتاب الذي نقدمه اليوم باسم مركز ابن غازي للأبحاث والدراسات الاستراتيجية للدكتور محمد علواش يسلط الضوء على المناهج الحداثية في سقوطها "التقويلي" و"التأويلي" لنص الوحي الكريم، بغية تجريده من بعده المقدس ومعاملته على النحو الذي تعامل به النصوص التاريخية والبشرية دون مراعاة لمفارقته ولتعاليه.

في هذا الكتاب يعالج الباحث قضية انزلاق المناهج الحداثية ووقوع أصحابها (أركون - آمنة ودود -  نصر حامد أبو زيد) تحت إسار الدوافع الذاتية الخاصة والارتباطات الاجتماعية والإيديولوجية التي تدفع في اتجاه الانقضاض على النص وتحميله أطنانا من الرغبات "المقنعة"، وقوافل من الشهوات التأويلية من أجل خلق حالة من الرضى الموهوم والإشباع المزعوم في أن "التأويل" قد حصل القدر اللازم من الفهم والانسجام مع "النص" ومع أجزاء العالم من حولنا. وليس هذا الذي تقدمه هذه المناهج في الحقيقة سوى خداع إدراكي يمارس سلطته على المؤول كما يمارس السراب سلطته على الظمآن في استدراجه إلى مستودع الماء الكاذب.

عقد أبو إسحاق الشاطبي في كتابه الموافقات فصلا يدخل في إطار مشروعه لوضع حدود للتأويل مواجها بذلك المدرسة الباطنية الهرمسية بكل ألوانها، فلم يترك بابا من أبواب هذا الضرب من التأويل إلا ونبه عليه في صرامة علمية تُحْسَبُ له، وقد جعل يقول فيه منبها إلى خلل في استراتيجية التأويل التي يبنيها المُؤَوِل في مقاربته لقصد المرسِل باعتبار أن ما يتأوله خارج بعيدا عن نسقه هو" تقصيد منه للمتكلم، والقرآن كلام الله تعالى، فهو يقول بلسان بيانه: هذا مراد الله من هذا الكلام، فليتثبت أن يسأله الله تعالى: من أين قلت عني هذا؟ فلا يصح له ذلك إلا ببيان الشواهد". وهو في ذلك يريد أن يضع حدا للتأويل المنطلق من أي احتمال كيفما اتفق،وإلا فمجرد الاحتمال يكفي بأن يقول يحتمل أن يكون المعنى كذا وكذا، بناء أيضا على صحة تلك الاحتمالات في صلب العلم، وإلا فالاحتمالات التي لا ترجع إلى أصل غير معتبرة. فعلى كل تقدير لا بد في كل قول يجزم به من شاهد يشهد لأصله، وإلا كان باطلا، ودخل صاحبه تحت يافطة أهل الرأي المذموم.

والغالب على المُؤَوِّلِ المُقَصِّد أن يطلب في النصوص والأقوال التي يؤولها المدلولات التي تناسبه والمضامين التي تستهويه، وهو في ذلك مثل من يقف في أشعة الشمس، لكنه يوليها ظهره، فهو لا ينظر سوى ظله، وظله عند التحقيق هو ما يعتقده ويؤمن به، وهل الشمس في اعتقاده وظنه سوى مَنْشَأِ الظلال.

لقد اجتهد الباحث محمد علواش في رصد مواضع السقوط في المناهج الحداثية في معاملة النص القرآني، وقد توفق إلى حد كبير في تحديد الخلفيات الإيديولوجية الثاوية خلف هذه المناهج، كما كشف عن التمويه الذي تمارسه هذه المناهج حين تخلط "الذاتيات" بـ"العلم" إلى الدرجة التي تستحيل فيه الرغبات والأوهام إلى نتائج علمية بضجيج إعلامي وأكاديمي صاخب..

في الختام نسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل في ميزان حسنات الباحث الدكتور محمد علواش، وأن ينفع بعمله هذا، وأن يجعله مقدمة لما بعده.

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

تم عمل هذا الموقع بواسطة