بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم، أما بعد..
فإن تقدم النقد من تقدم الإبداع، وتقدم الإبداع من تقدم الثقافة بشكل عام، ولا يجوز أن نتحدث عن ثقافة متقدمة وتنويرية في غياب مناخ ديمقراطي وحر، يعيد الاعتبار للكلمة ولرجال التربية والأدب في المقام الأول.
كان العقاد رحمه الله يرى أن النقد الذي هو قول على قول، لابد له من رسالة وإلا استحال إلى رسالة عدمية فارغة بل وتدميرية، لذلك كان على الأديب كما على الناقد أن يجد لرسالته محتوى ومضمونا حين يتصل الإبداع بقضايا العصر وأسئلته.
إن الحديث عن "أزمة" النقد هو ترجمة لحركية العقل، ولنسبيته، ولسعيه لإيجاد أجوبة "إنسانية" عن تحديات لحظته وراهنه، ليعاود تأسيس ذاته في ما يشبه مشروعية جديدة، وهو ما نصطلح عليه بأعراض "الأزمة الحادة".
في هذا الكتاب الذي نقدمه للباحث القدير الدكتور عبد الغني العجان، يستعيد الباحث أسئلة الأزمة عبر تاريخ الأدب العربي الطويل والمتعرج والذي يرجع إلى ابن سلام الجمحي فيما جمعه من شعر إلى لحظتنا النقدية، أسئلة تتشكل في كل لحظة إبداعية بلون مختلف بحسب طبيعة التاريخ وشروط الثقافة السياسية والاجتماعية.
يأخذنا الناقد عبد الغني العجان المتمرس بلغة الأدب والنقد قديمه وحديثه في هذا الكتاب في جولة ماتعة بين القضايا التي اختارها لرصد لحظات تأزم النقد، وهي في الواقع لحظات إبداع، لأن المعاناة الفكرية لا تنتج إلا عن حالة حياة وتفاعل وارتدادات بين خيارات قد تمليها ظروف وسياقات اللقاء بثقافة الآخر الفنية، وأحيانا السعي لأخذ الإبداع الأدبي إلى ساحات علمية(علم النفس، علم الاجتماع، التاريخ، إلخ..) بقصد تجريب أدوات في الفهم والتحليل، قد يستجيب الإبداع وقد يتمنع في الدخول إليها إلا بتكلف وتعسف، ما يلبث أن يطلب الطريق للرجوع إلى مرابضه ومراتعه الأصيلة.
بلغة نقدية متمكنة لا تخلو من نفس فلسفي، لم يقتصر الباحث عبد الغني العجان على نموذج نقدي واحد في القديم، وإنما جمع بين عدد من التجارب النقدية كلاسيكية ومعاصرة تنتمي إلى مدارس متباينة، كما اعتمد على العديد من الخطابات النقدية مقارنا بين توجهاتها، مما أخصب نتائج هذه الدراسة وأعطاها بعدا تطبيقيا في دورانها على سؤال "ما الأدب؟" الذي أعاد طرحه جان بول سارتر في الثقافة الغربية، و"ما النقد؟" و "ما هي شروط الناقد؟" التي ترتد لنصوص أفلاطون وأين يلتقي "العلم" بـ"الفن" وأين يفترقان؟ كما اهتم بالقضية هيبوليت تين وكبار النقاد والفلاسفة الألمان..
يساعدنا عمل الدكتور عبد الغني العجان على العودة لسؤال "الذوق" في عمل الناقد، فرغم تأكيد المتقدمين على أدوات العلم بالشعر الجيد، إلا أن الحاجة تبقى ملحة لما هو من قبيل الطبع في قياس درجة "الجمال" و"الإثارة" و"التأثير" النفسي في العمل الفني.. فالكتب كما يقول الجاحظ لا تحيي الموتى، ولا تحول الأحمق عاقلا، ولا البليد ذكيا، ولكن الطبيعة إذا كان فيها أدنى قبول، فالكتب تشحذ وتفتق وترهف ..
في الختام نسأل العلي القدير أن يجعل هذا العمل في ميزان حسنات الباحث عبد الغني العجان، وأن ينفع بعمله عموم الطلبة والباحثين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.