يعد مفهوم "الحرية" بمضامينه الرائجة حاليا، من المفاهيم التي نشأت في تربة عصر الأنوار معبرة عن حاجة الإنسان الغربي للتحرر من الاستبداد السياسي والكنسي وما يدور في فلكيهما ويرتبط بهما. لكن توطين هذا المفهوم وتبييئته في مجال التداول العربي والإسلامي اصطدم بجملة من العوائق المنهجية والمعرفية، بدء من دلالات المفهوم نفسه وصولا إلى نظرة العرب والمسلمين الارتيابية للقضايا التي حملها المفهوم في نسق ولادته؛ وكذا طبيعة المضامين التي واكبت تطوره.
في زمن التحولات الكبرى يكون الدفاع عن الحرية، باعتبارها أم القيم ومقدمة شرطية لكل نمو وتقدم منشود، ضرورة تاريخية وفريضة علمية وليس ترفا فكريا. وهو ما يفترض التعامل معها ككل لا يتجزأ، وليس ربطها فقط بالموقف من الاستبداد الذي يبقى أصل كل المفاسد والمسؤول الأول عن الإحباطات المتلاحقة.
والأمة العربية وهي تعيش "فترات انتقالية" عصيبة تسعى من خلالها إلى التحرر من دولة الاستبداد لبناء دولة المؤسسات تدرك أن الانتقال من التحرر إلى الحرية ليس عملية سهلة بل هو انتقال صعب وعسير يتطلب زمنا ونخبا ووعيا.. كما أنه يختزن عدة إكراهات باعتباره:
- لحظة بروز قيم مجتمعية صاعدة .
- مرحلة تأسيس قواعد اجتماعية وسياسية جديدة.
- زمن المفاوضات والتوافقات والتسويات الشاقة في مختلف المجالات.
فالتحولات الاستراتيجية والسياقات السياسية لها أثر عميق على البنى الثقافية والاجتماعية، حيث تدخل عوامل مختلفة ضاغطة لطرح أسئلة، وتحديد خيارات، وتقبل مضامين. إذ الكثير من التحولات خاصة على مستوى السلطة السياسية مثلت عاملاً مهما في تحديد المعتقدات، والاختيارات المستقبلية في شتى الميادين. ودور السلطة تاريخيا في نشر دين أو مذهب معين موثق ولا يحتاج لكثير بيان سواء في الدول الغربية أو الإسلامية.
كما أن العديد من المطالب السياسية والحقوقية المرفوعة في العالم العربي هي في جوهرها مطالب ثقافية، ومنها مثلا موضوع الحرية الذي يعكس توترا بين مفاهيم الحداثة الوافدة وسريعة الانتشار والتأثير، خاصة على مستوى النخب، ونتائج الاجتهاد التراثي المرتبط بفهم الدين بشروط مراحل الانحطاط والتخلف.
إن الحديث عن الحرية والحاجة إليها في العالم العربي لا يستقيم ولا يكون حديثا "علميا" دون استحضار: أن الحرية كل لا يتجزأ، وطرحها للتداول والنقاش المجتمعي ينبغي أن يتم ضمن نقاش عام ونضال متواصل قصد تحقيق الحريات الأساسية، السياسية والثقافية والاجتماعية...
أهمية التحولات الاستراتيجية الدولية والإقليمية وتأثيراتها المباشرة والمضمرة على الكثير من الاختيارات التي يتم تبنيها من قبل السلطات الحاكمة في الدول العربية سواء عن اقتناع بجدواها وأهميتها أو توظيفا لها. ضغوطات الحداثة وإكراهاتها التاريخية ومحاولة الكثير من النخب العلمانية فرض نماذجها المقترحة قسريا باعتبار ذلك الطريق السليم للحاق بركب التقدم والتنوير والحضارة. الفهم التراثي للحرية المنطلق من النظرة الحرفية للنصوص الشرعية دون استحضار مقاصدها، وانفتاح الإسلام على الحضارات المتنوعة، وتعارفه مع مختلف "الشعوب والقبائل".
إن الحرية تبقى منقوصة ومجرد وهم ما لم يتحقق شرطان اثنان: التنصيص الدستوري على ذلك بعد توافق القوى المجتمعية الفاعلة والمتنافسة، واتباعه بترسانة من القوانين المنظمة التي تنقله من مجرد نص دستوري بارد إلى فعل معيش في واقع الناس، والقبول الاجتماعي حتى لا تبقى النصوص القانونية حبرا على ورق، ومنتجة للاحتقان الاجتماعي الذي يمكن أن يقسم المجتمع ويدخله في دوامات لا أحد يعلم مآلاتها.
من هنا يلزمنا في العالم العربي دراسة بعض التجارب الإنسانية الرائدة والاستفادة من نتائجها حيث استطاعت أن تحقق التعايش بين مختلف مكونات المجتمع رغم التعدد الديني واللغوي والعرقي.. محققة بذلك الترابط الاجتماعي والاستقرار السياسي، دافعة قوة العمل الخلاقة للإبداع والعطاء والتحضر.
ونستحضر في هذا السياق تجارب الدول الأوروبية في انتقالاتها التاريخية العسيرة، وكذا تجارب أمريكا والهند وماليزيا وجنوب افريقيا، وغيرها من التجارب التي تستحق البحث والفحص للخروج بنتائج وقواعد تٌقترح على العالم العربي الذي ما زال غارقا في الصراعات السياسية والمذهبية والطائفية والعنف والاستبداد.